الإثنين 20/8/2007
" سوكولوكو مالاهابى شيكابالا يديعوت أحرونوت ... سنكافولا سنكافولا سنتافيه ....... "
كانت هذه – على ما أذكر – كلمات الطيار الكينى والتى تؤكد لنا بما لا يقبل الشك أننا وصلنا بسلامة الله إلى الخرطوم ...
لم يكن طياراً سيئاً بحال من الأحوال ولم تكن الرحلة مزعجة بغض النظر عن المطبات الهوائية وعن أن الطائرة كانت تتبع الخطوط الجوية الكينية وتشبه الطائرات الورقية وعن الرجل السودانى الجالس أمامى الذى لم يتوقف عن الثرثرة مع جيرانه ولا عن طلب كل شئ تمر به المضيفة السمراء الكينية بدءاً من الكولا وحتى استمارة الدخول لغير السودانيين !!!
هبطنا فى مطار الخرطوم الدولى فى تمام الثالثة صباحاً وسط هدوء شديد ... وأول من قابلنا هو الجراد الذى أحسن استقبالنا فلم يصطدم بوجوهنا ... كنا وحدنا فى المطار ولم يكن عددنا كبيراً ولم يكن هناك سوانا من الأساس ... دخلنا إلى صالة المطار فأحسن السادة الضباط معاملتنا ... ربما شفقة منهم علينا كمصريين بعد هزيمة الأهلى أمام الهلال السودانى بثلاثية نظيفة فى السودان منذ ساعات ...
أنهينا إجراءاتنا وخرجنا لاستقلال السيارة التى كانت تنتظرنا فى الخارج لنتوجه إلى فندق السلام روتانا – الخرطوم
كان فندقاً فخماً بكل ما تعنيه الكلمة من معان ... لم يكن ليقل عن خمسة نجوم بأى حال من الأحوال ... أعطينا موظف الاستقبال جوازات سفرنا وتأكيدات حجز الغرف وريثما وقعنا الأوراق كانت الجوازات قد عادت إلينا فى واحدة من أسرع عمليات التصوير التى شهدتها فى حياتى ...
صعدنا إلى غرفنا الفخمة .... دخل كل من ثلاثتنا إلى غرفته ... أبدلت ملابسى واستلقيت على السرير كدب قطبى مرهق بينما الساعة تدق الرابعة صباحاً وكلى أمل فى أن يسقط الفندق على رؤوسنا فلا يوقظنى مديرى فى السابعة والنصف .
**********
لم يسقط الفندق على رؤسنا – ولا تتعجبوا فما كل ما يتمنى المرء يدركه - ... دق هاتف غرفتى عشرات المرات دون أن أفكر حتى فى التفكير فى الرد .. ولكننى أخيراً مللت فأجبت بصوت متماوت فجاءنى صوت موظف الاستقبال السودانى المهذب يقول إن مديرى حاول إيقاظى ففشل فكلفه بهذه المهمة ....
استيقظت من النوم – أو أن جسدى هو الذى استيقظ لو شئتم الدقة - ... جررت أقدامى جراً إلى الحمام غسلت وجهى ودعكت عينى عشرات المرات دون أن أفلح فى إيقاظ عقلى ... فكرت للحظة بأن أجلس على قاعدة الحمام لأمارس حقوقى الطبيعية ولكننى تذكرت أن هذه الأماكن الفخمة تعانى من مشكلة مزمنة فى الشطافات ... وتأكدت من هذا بلمحة سريعة ... فصرفت نظر عن فكرة حقوقى الطبيعية فى الوقت الحالى ...
وضعت رأسى تحت صنبور المياه وتأملت جميع الأشياء الموجودة على مرآة الحمام بدون فهم ثم هززت رأسى متعجباً من هذه الفنادق التى تضع مصنوعات فضائية للنزلاء ... خرجت وارتديت ملابسى وتوجهت للقاء شركائى لنتناول الإفطار فى الأوبن بوفيه ... كان علىَّ أن أخدم نفسى بنفسى .. تناولت بعض الفول غير المهروس ... وبعض البيض المقلى بلا طعم .. وبعض الأشياء التى حاولت خداع عقلى المرهق وإقناعه بأنها خبز ....
ثم انطلقنا إلى السيارة التى تنتظرنا بسائقها السودانى النحيف المبتسم دائماً .. وانطلقنا نجوب شوارع الخرطوم ...
**********
أول ما يلفت نظرك فى الخرطوم هو انتشار السيارات البيضاء هناك بشكل عجيب ... فمن كل عشر سيارات ملاكى ستجد 7 على الأقل بيضاء ... كما أن لترقيم السيارات أسلوب جميل أفهمنى إياه السائق المبتسم ...
فالسيارات معظمها تتكون من أربع أرقام وفوقها بعض الحروف ...
فمثلا تجد : خ أ ك
ومعنى هذا أن السيارة تتبع مرور الخرطوم ( خ ) ... ثم إنهم يبدءون بعد ذلك بوضع حروف تتابعية ... خ أ ... ثم تنتهى فيضعون خ ب .. ثم خ ت ... وهكذا حتى تنتهى خ ى ... فيبدأون خ أ أ .... وهكذا يستطيعون الحفاظ لأطول فترة ممكنة على معدل 4 أرقام للسيارة مكتوبة بخط واضح جميل يسهل قراءته من ظباط المرور ... وهذا لا يمنع وجود سيارات من ثلاثة أرقام أو رقمين ...
وضباط المرور فى الخرطوم هم أكثر الضباط الذين يمكنك رؤيتهم نحافة ... هم كائنات نحيفة يحمل كل منهم لاسلكى كبير ويشير للسيارات دائماً بالمرور ... وأحياناً بالتوقف .... وأعود لأؤكد لك أنهم فى غاية النحافة حتى أنهم أحياناً يختفون وراء إشارات المرور ...
والإشارات هناك لها شكل جميل مختلف ... فهناك العمود المعروف المنتصب فوق الأرض .. ويخرج من أعلاه عمود آخر أفقى بالعرض معلقة فيه الإشارة الثلاثية الشهيرة فتصبح فى منتصف الشارع بدلاً من أن تلوح رأسك يساراً أو يميناً لكى تراها ...
والسائقون فى الخرطوم يحترمون الإشارة جداً ... أرجو تسجيل هذه الملاحظة ....
وصلت لمقر الشركة فوجدت هناك المدير التنفيذى والمدير المالى المصريين ومدير عام الشئون المالية السودانى وبعض الموظفين وسكرتيرة حسناء نوعاً ما ... كلا هى ليست حسناء ... بل هى امرأة لطيفة وحبوبة لو شئنا الدقة .... عقدنا اجتماعا سريعاً لكى نتعرف عليهم ثم نبدأ العمل .. رحل المديرون الثلاثة ليواصلوا اجتماعاتهم مع بعض الجهات الخارجية ثم بدأنا نحن اجتماعنا الداخلى لنقوم بفحص دفاتر الشركة وعملها المحاسبى ووضع نظام كمبيوتر لتسجيل الحسابات .... وبدأ احتكاكى الحقيقى مع السودانيين ...
السودانيون هم أطول شعوب الله بالاً وأوسعهم روحاً وأكثرهم عدم تقدير للوقت ...
جاء المحاسب الوحيد فى الشركة فطلبنا منه بعض الدفاتر والأوراق فقال : ان شاء الله خير ... ثم ذهب وغاب فترة طويلة ثم عاد بعد أن نسى – ونسينا – ما طلبنا ...
طلب مسئول تكنولوجيا المعلومات الذى حضر معنا من القاهرة أجهزة كمبيوتر جديدة .. جهازين فقط لا غير .. وكنا قد طلبناهما منذ أسبوع ... فقال الأستاذ المحاسب : إن شاء الله خير ... لقد حجزناهما وسنذهب لاستلامهما الآن ... ثم خرج من الشركة لإحضارهما فى الساعة العاشرة ولم يعد إلا فى الرابعة عصراً ....
ومن العاشرة حتى الرابعة لم نجد من يفيدنا بأى شئ سوى السكرتيرة السمراء الحسناء نوعا ما ... التى اتفقنا على أنها ليست حسناء ... بل هى امرأة لطيفة وحبوبة لو شئنا الدقة .... والتى لا تعرف الكثير أيضاً .....
وفى الثانية بدأت الأمطار فى الهطول ....
وعندما أقول الأمطار وأنا أتحدث عن – ومن - السودان فهذا يعنى رصاصات سريعة تخترق الجماجم وليست أمطاراً كأمطارنا نحن المصريين ... كانت غزيرة وقوية إلى حد لا يصدق وبدأت البرك تتكون بشكل يفوق العقل .....
فى الرابعة قررنا الرحيل بعد أن انقطعت الكهرباء عن المكان وبعد انقاطعها عاد السيد المحاسب وقال أنه لم يستطع إحضار الأجهزة اليوم بسبب الأمطار ووعدنا بأنه سيحضرها فى المساء حتى نجدها جاهزة صباحاً ثم قال أنه قد أعد لنا حفل غداء فى الهيلتون ....
وااااااااااااااو ... سأدخل الهيلتون أخيراً ... وسأتناول غدائى فيه أيضاً !!!! باضت لك فى القفص يا معفن .. هكذا قلت لنفسى
جاءت السيارة وحملتنا إلى الهيلتون وسط الأمطار – التى عرفت فيما بعد أنها معتادة فى الخرطوم - ... دخلنا من بوابة الهيلتون فوجدنا السقف تتساقط منه المياه وقد أتى المسئولون ببعض الخرق القماشية ووضعوها على الأرض وبعض الجرادل أيضاً ووقف بعض العمال السودانيين ليبعدون الناس عن المكان المبلل بالماء ... تساءلت هل هذا الهيلتون يتبع سلسلة مطاعم الهيلتون العالمية أم أنه جزء من لوكاندة المندرة ؟؟ فقيل لى بل هو يتبع سلسلة مطاعم هيلتون .. فعرفت لحظتها لماذا تم القبض على باريس هيلتون وريثة هذه الفنادق .
تناولنا غداءا سريعا فى الاوبن بوفيه .. ثم كان أمامنا خياران ... أن نعود إلى فندق السلام روتانا أو أن نجلس فى بهو الهيلتون لنتناول الشيشة .... ورغم عشقى للشيشة إلا أن نفسى التى ترغب فى النوم كما يرغب دراكولا فى دماء بشرية اختارت العودة للفندق .... وليتها لم تختر ....
الأمطار سدت الشوارع تماما ... والخرطوم – كما علمت فى هذا اليوم – تحتوى على واحدة من أسوأ شبكات الصرف الصحى فى العالم إن لم يكن فى الكون .... فاستغرقت رحلة العودة حوالى 3 ساعات .. أى أنها استغرقت وقتاً أطول من رحلتنا من القاهرة إلى الخرطوم !! شاهدنا فى بداية تحركنا بعض الشباب مقطوعى الأيدى والأرجل الذين يشحذون من ركاب السيارات.. فقال السائق المبتسم إياه فى قرف: هؤلاء ليسوا سودانيين .. بل هم من بعض الدول الفقيرة مثل تشاد والحبشة ..... ابتسمت رغماً عنى ... فهو يعتبر تشاد والحبشة دولاً فقيرة ينبغى القرف حين يتحدث عنها ....
مع ازدحام المرور بهذا الشكل حيث كان يمر علينا أحيانا ربع ساعة دون أن تتحرك سيارتنا بدأت التأمل جيداً فى المارة فلاحظت شيئاً غريباً ...
" بنات السودان زى القمر .... " هذه هى الملاحظة الأولى التى وردت إلى ذهنى فى هذه اللحظة ...
كثيرات منهن تتمتع بسمار جميل ... ليس سوداً بل سمار فقط ... ابتسامتهن جميلة .... وعيونهن جميلة ....
شاهدت أمام باب الجامعة بعض الطالبات والطلبة الروشين الذين يمزحون ويتضاحكون ... وأدهشنى أننى اندهشت لذلك وظننت أن شباب مصر هم الشباب الروش الوحيد فى العالم العربى .
شئ آخر لاحظته وهو أنه حينما تتحول الأراضى لبرك فإن الكل يخلع حذاءه ويشمر بنطاله ويسير .... شاهدت عساكر مرور يفعلون ذلك دون مشكلة ... وشاهدت رجلاً يرتدى بذلة كاملة ويحمل لاب توب ويسير بنفس الطريقة
شاهدت أيضاً مبنى كبير مكتوب عليه " مقر الأمن والمخابرات " بدون أى حراسة تقريباً ... ذكرنى هذا بمحطة المطار السرى .... وشاهدت مبنى آخر مكتوب عليه : وزارة رئاسة الوزراء ... لم أفهم يوماً فى التكوينات السياسية ويبدو أنى لن أفهم فيها أبداً ...
بعد معاناة طويلة وصلنا أخيراً إلى الفندق يقتلنا التعب والإنهاك ... صعدت إلى غرفتى ودخلت على الإنترنت قليلاً وشاهدت تلفزيون الفندق قليلاً وسقطت نائماً قبل أن تدق الساعة التاسعة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق