لفترة طويلة لم أرغب فى الكتابة عن ما يحدث فى مصر حاليا .. ربما لشعوري أن الموقف أكبر من فكري المتواضع .. وربما خشية أن أخسر أصدقائي من الجانبين .. وربما لأننى شعرت بالملل الشديد مما يحدث ... ولا أدري ما الذى دفعني الآن لتجاوز كل هذه المشاعر ومحاولة الكتابة فيما يحدث وذلك بما أننى لازلت على الحياد لم أفقد بعد أحد أصدقائي المتظاهرين برصاص قوات الأمن .. ولم أفقد أحد أصدقائي عساكر الجيش بقنابل مولوتوف المعتصمين ( أتوقع هنا أول شتيمة ) .. فلأكتب وأنا على حيادي التام .. ولأذكر الحقائق ولا شئ إلا الحقائق
عندما قامت ثورة يناير ... كان التفاعل الشعبي معها فى بداياته ضعيفا لخوف الناس مما يحدث من تصادمات غير معتادة فى مصر ثم خوفهم من الانفلات الأمني ورغبتهم فى إنهاء الأمر بسرعة .. ولكن مع تقدم الثوار وتراجع مبارك وشعور عامة الشعب أن كابوس مبارك على وشك الرحيل عاد مؤشر التأييد الشعبي من جديد للثوار مما أعطاهم تلك الشرعية المحببة .. شرعية الشعب
وتنحى مبارك - أو أجبر على التنحي من قبل الجيش المعارض لتولي جمال مبارك الحكم - وخرج علينا اللواء الفنجري بتحيته للشهداء مما أثار موجة عارمة من التأييد للجيش والمجلس العسكري الذى أدى وقتها دورا بطوليا مما أكسبه نفس الشرعية المحببة .. شرعية الشعب .. وشرعية ميدان التحرير
ثم جاء عصام شرف من قلب التحرير مكتسبا نفس الشرعية .. وارتفع مؤشر البورصة قليلا وتفاءل الناس وعم الرخاء ..... لعدة أيام .. ثم انقلب الحال
عشرات الاعتصامات فى كل مكان .. عشرات التظاهرات فى كل مكان ... تحويل ميدان التحرير إلى نزهة أسبوعية .. مليونيات أسبوعية غزت التحرير بمسميات مختلفة .. وكان من المطلوب من شرف أن يؤدي كل شئ تحت كل هذه الظروف .. كان مطلوبا منه أن يعيد بناء البيت بينما هناك عشرات المعاول تحاول هدمه .. كان من المفترض أن يرفع الأجور لعمال لا يعملون أصلا .. ولمدرسين لا يدرسون أصلا .. ولأطباء ينسون المشارط فى أجواف المرضى أصلا ....
وتصاعدت حدة الاعتصامات شهر تلو الشهر حتى أجبر الرجل على الاستقالة بعد أن قدم كل ما يستطيع فى ظل ظروف حالكة .. ولو كان اختيارا سيئا فلا يجب على ثوار التحرير أن ينسوا أن اختياره كان إرضاءا لهم وأنهم هم من طالبوا برئيس وزراء من قلب التحرير ..
هنا ينتهى الفصل الأول من القصة ... ودعوني أقول أنه الفصل الأجمل
ثم بعد مشاورات من المجلس العسكري وبعد رفض العديد من ممثلي القوى السياسية لتولي حقيبة مجلس الوزراء وذلك خشية أن يفقدوا الفرصة فى رئاسة الجمهورية ... بعد العديد من المشاورات والمحاولات جاء الجنزوري
والجنزوري لمن لا يذكر كان أحد الشرفاء القلائل الذين تولوا رئاسة مجلس الوزراء .. لم يكن خبيرا بالألعاب القذرة - وربما كان هذه هو خطؤه - ولكنه كان منحازا لمحدودي الدخل ومن ينكر هذه الحقيقة فهو متجني على الرجل .. ولا ننسى أنه هو أول رئيس وزراء يتجرأ ويطلب تخفيض مخصصات رئاسة الجمهورية ... عموما ليس مجالنا هنا تقييم وزارة الجنزوري الأولى فقد ذهبت بما لها وما عليها
تم اختيار الجنزوري فاعترضت القوى السياسية .. اعترضت حتى قبل أن يتم تأكيد الاختيار أو إعلانه بشكل رسمي .. وخرت المظاهرات - التى لم تعد أيام الجمعة بل صارت يومية - تندد باختيار الجنزوري ... وسخر الجميع من كبر سنه .. وبدأوا فى الاعتراض على وزرائه الذين لم يخترهم بعد أو حتى يتشاور معهم ... بل جلس المعتصمين على باب مجلس الوزراء وأقسموا أنه لن يمارس عمله من مجلس الوزراء ... وهذه فى حد ذاتها جريمة لا علاقة لها بالثورة .. فلا يجوز أبدا أن نمنع رئيس الوزراء من دخول مقر عمله حتى لو لم يكن على مزاجنا .. ونسى الثوار أنهم هم من اختاروا عصام شرف وتمتع الرجل بما يسمى شرعية التحرير ولم ينجح في نيل رضا الثوار أبدا
ومع بداية فترة عمل الجنزوري تم اختيار وزير داخلية عليه العديد من علامات الاستفهام .. ورغم جرائم الرجل - التى هي قيد التقاضي الآن - إلا أنه من المعروف عنه وسط ظباط الشرطة أنه يكره جلوس الضباط على المكاتب ويرى دائما أن وظيفة الضابط هي الشارع .. وبالفعل خرجت العشرات من الحملات والأكمنة وتم ضبط مئات المجرمين وعشران العصابات ... ولكن هذا بالطبع لم ينل رضا المعتصمين الذين كانوا مشغولين بشئ آخر .. بالتصادم
تصادمات ضارية مع رجال الجيش .. عنف مفرط ووحشية مبالغ فيها من رجال الجيش فى التعامل مع المعتصمين .. عشرات المصابين والضحايا كل يوم فى صفوف الثوار ... عشرات الأمهات الثكلى كل يوم
تعامل الجيش بهمجية مع الثور وتحولت الاعتصامات إلى حروب شوارع تجلس إلى جوارها لبنان والعراق كطفلتين تتعلمان أصول العنف ..
ولم يكن من المنطقي أن يصمت الثوار وهم يحملون ضحاياهم كل يوم .. فبدأ العنف المضاد كرد فعل .. وظهرت قنابل مولوتوف وأسلحة بيضاء مع الثوار - ولا أقول مع البلطجية المندسين وسط الثوار - وأصبح الكر والفر والقتال أسلوب حياة يومي فى منطقة وسط البلد وظهرت جمل على غرار : قمنا بأسر بعض عساكر الجيش وجاري اتفاق تبادل أسرى بين الجيش والمتظاهرين
أشعرب بالرغبة فى القئ وأنا أكتب هذه السطور ... أتجاوز بعيني كل هذه الجثث وأفكر قليلا فى بداية الاعتصام الحالي
كان من المطلوب تحديد جدول زمني لتسليم السلطة . فخرج المشير ليعلن أن اختيار الرئيس القادم سيتم فى يونيو من العام المقبل ... ولكن بعض الثوار خرجوا ليكذبوه ولتبدأ نغمة : لن يسلم السلطة فى هذا التوقيق .. فالرجل كاذب .. ويظهر فى عقلي المنهك سؤال : لماذا طالبتم بتحديد ميعاد لتسليم السلطة إذا كنتم قد بيتم النية لتكذيبه ؟؟ وما هي الضمانات التى تطلبونها أصلا ؟؟
خرج علينا بعض المستظرفين ليطلبوا بعمل انتخابات رئاسة يوم 25 يناير فى ذكرى الثورة .. وإعلان نتيجتها فى ذكرى موقعة الجمل .. وتسليم السلطة فى ذكرى تنحي مبارك .. وكأن الهابي بيرثداي تو يو هو الذى سيتحكم فى مصير وطن .. وأسأل من يريدون تسليم السلطة خلال شهر .. عن عشرات الملفات الأمنية والاقتصادية والسياسية والقومية التى يمسكها الجيش الآن .. هل يكفي شهر لتسليمها ؟؟ فى الشركات الصغيرة .. وعندما يريد أحد المحاسبين الاستقالة لابد أن يخبر إدارة الشركة قبل شهرين من استقالته لتعيين بديل .. ويكون هذين الشهرين فترة ما يسمى ( هاند أوفر ) أى تسليم الملفات من المحاسب القديم إلى المحاسب الجديد
أما تسليم السلطة لرئيس مدني فى شهر يناير فهو تهريج ولعب عيال ويضع اسمين أو ثلاثة على الساحة .. أو كما قال د. أحمد خالد توفيق : كيف يرحل المجلس بعد هذا كله؟.. وبعد كل هذه الاحتجاجات؟.. ما يحدث يؤكد كل يوم أن المجلس لا يستطيع الرحيل.. إنه كمن ركب النمر فلا يقدر على النزول عن ظهره.. وهذا يعني أن الحكم العسكري هو المخرج الوحيد للمجلس اليوم..
أما الإعلام الرخيص الذى ينفخ فى الأحداث ويتعامل مع الثوار على أنهم آلهة ويمارس التسخين بأقذر معانيه .. ذلك الإعلام كما مارس نفاق مبارك في بدايات الثورة فهو الآن يمارس نفاق التحرير بنفس القوة
لم تعرض أى قناة خاصة عشرات الفيديوهات الموجودة التى تدين المتظاهرين بالعنف ولو من باب الحياد
لم يعرضوا ذلك الفيديو للمتظاهرين وهم يسحلون فتاة هتفت للمجلس العسكري بينما تباروا فى عرض فيديوا الفتاة التى انخلعت ملابسها أثناء ضرب الجنود لها ثم توقفوا جميعا قبل استكمال الفيديو الذى يظهر الجنود وقد ابتعدوا جميعا عنها بمجرد تكشفها .. وأصبح الجندي الذي يضع يده على القايش هو جندي يتبول على المتظاهرين
الإعلام القذر يمارس عملية تسخين قذرة مشكوك فى أهدافها .. ونفاق صريح للتحرير .. وكان من الأشرف لهم أن يبتعدوا عن التغطية تماما أو أن يعرضوا الفيديوهات التى تدين الجانبين
ليس مطلوبا من الثوار اليوم سوى أن يهدأوا قليلا .. ويعطوا الفرصة لحكومة الجنزوري لمباشرة عمله فى ظروف طبيعية لنتمكن فيما بعد من محاسبته على ما وعد بالقيام به فى شهرين
ليس مطلوبا من الثور اليوم سوى أن يهدأوا قليلا لكي لا يعطوا الجيش الذريعة للمزيد من سفك الدماء
ليس مطلوبا من الثوار اليوم سوى أن يهدأوا قليلا لكي يتوقف مذاق الدم من الشوارع .. أعلم أنهم ليسوا هم المتسببين فيه .. ولكنهم شريك فيما يحدث .... وبما أنهم يحبون بلدهم أكثر منا جميعا وأكثر من المجلس العسكري .. فليهدأوا قليلا للحفاظ على الوطن
أتمنى أن نفكر قليلا فى مستقبل البلاد .. وأنا أرى - وهذا أول راي شخصى أكتبه من بداية المقال - أن تسليم السلطة لإدارة مدنية فى يناير هو حل عادل وعاقل للأزمة .. أما الصراخ والعويل والتخوين وسب الجالسين فى بيوتهم فليس هو الحل .. فكل هذه التصرفات لا عقل لها ولا قلب ... ولا الجيش شياطين ولا الثوار ملائكة .. ولا الجيش ملائكة ولا الثوار شياطين .. بل كلنا بشر يصيب ويخطئ
أدعو الله أن لا يتحول وطني لعراق جديدة .. ولا لبنان جديدة .. ولا لتونس جديدة يحكمها رئيس بلا سلطات لم يختره الشعب
اللهم اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات
الثلاثاء، ديسمبر 20، 2011
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)